كيف وصلت أمريكا بسجين سابق، وسياسى فاسد، ومدبر لانقلاب على رئيسه الشرعى المنتخب، و«أراجوز» سياسى، اسمه «رجب طيب أردوغان»، إلى رأس السلطة السياسية فى تركيا؟ هذا جزء بسيط من حقيقة الأخ «أردوغان». ببساطة إنه مجرد «صنم» أو «عجل صفيح» صنعه مجاذيب الإخوان، ليطوفوا حوله ويعبدوه، وهو لا يملك لهم ولا لنفسه ضرا ولا نفعا. لسنوات طويلة، ظلت أبواق الإخوان تروج لأسطورة «خليفة المسلمين الجديد»، رجل كل العصور الذى وقف فى وجه أمريكا ليفرض كرامة بلاده، ويبصق فى وجه إسرائيل ويعلمها الأدب. كان «أردوغان»، كما يريد الإخوان أن نراه، التجسيد الحى لشعارهم بأن «الإسلام هو الحل»، رغم أنه لم يكن يملك فعلا ذلك الحل. «أردوغان» ببساطة أكذوبة تضاف لأساطير الإخوان. تلك الأساطير التى جعلت من «محمد مرسى» إماما للرسول الكريم عند أهل «رابعة»، وجعلت من مبتكر شعار «رابعة» نبيا مرسلا. «أردوغان» مجرد سجين سابق دخل عنوة للساحة السياسية التركية، مثله مثل محمد مرسى أو خيرت الشاطر. أنشأ حزبه، «العدالة والتنمية»، بدعم وضغط أمريكى فج، يتشابه كثيرا مع الضغط الذى مارسته الإدارة الأمريكية لإنشاء حزب «الحرية والعدالة» بعد الثورة، وبعلاقات مباشرة ووطيدة مع رجل المخابرات المركزية وسفير واشنطن السابق فى أنقرة «مورتون أبراهاموفيتش» الذى لعب دورا لا يختلف كثيرا عن دور السفيرة الأمريكية «آن باترسون»، فى فرض وتصعيد إخوان مصر. «الوطن» ترصد صفحات من التاريخ الأسود لأردوغان.. تفاصيل علاقاته المشبوهة مع واشنطن واللوبى اليهودى الذى ضمن صعوده، وصفحات مجهولة من فساده وانحرافه المالى والسياسى الذى لم يكن لأحد مصلحة فى كشفه أو الحديث عنه.
رسالة واشنطن لـ«أردوغان» قبل تأسيس حزبه: «أنت رجلنا المفضل.. لقد قمت بواجبك كمحافظ لإسطنبول على أكمل وجه»
يمكن تلخيص رحلة صعود «أردوغان» إلى رأس السلطة فى تركيا، بأنها بدأت بالانقلاب على أستاذه ومعلمه ورئيس حزبه «نجم الدين أربكان»، وسارت فى طريق التحالفات المشبوهة وراء الأبواب المغلقة فى مكاتب المخابرات الأمريكية واللوبى اليهودى فى واشنطن، قبل أن تستمر بكسر أنف القانون والدستور، ولى عنق قرارات البرلمان، والبراعة فى تصنيع أكاذيب عن إنجازات وهمية، يفوق حجم الكلام عنها حجم ما ينفد على الأرض.
أى أن كتالوج الكذب والخيانة والتلاعب الإخوانى التركى، لا يختلف كثيرا عن مثيله فى مصر.
يرصد الكاتب والصحفى التركى «نصوح جنجور»، فى كتاب «أطياف الحركات الإسلامية»، بدايات «أردوغان» فى شق طريقه للسلطة بالانقلاب على رئيسه «أربكان». يرصد الطريقة التى كون بها «أردوغان» حزبه «العدالة والتنمية»، وكيف اعتمد على اللعب بكل الأوراق، ومداعبة كل المصالح لأمريكا ولإسرائيل وحتى للجيش التركى الذى حاكم وطارد وسجن ضباطه بعد وصوله للحكم، ليشق لنفسه طريقا فى قلب السلطة التركية، تمهيدا للوصول إلى رأسها.
يقول جنجور: «بعد فترة من ظهور «أردوغان» على الساحة السياسية التركية، لاحظ عدد كبير من الكتاب والباحثين والسفراء والمسئولين الأمريكان طموحه وصعوده، وبدأوا يقدمونه على أنه القائد القادم للإصلاحيين فى تركيا، ووجه عصرى يمكنه قيادة المرحلة القادمة، واستشهدوا بالنتائج الملموسة فى تحسين الأوضاع التى شهدتها فترة حكمه، كمحافظ لإسطنبول فى الفترة بين عامى 1994 و1998. ويؤكد «جنجور» أن العلاقات بين «أردوغان» والولايات المتحدة بدأت بلقاءات متعددة جمعت بينه وبين السفير الأمريكى الأسبق بأنقرة «مورتون أبراهاموفيتش» فى الثمانينات، الذى صار واحدا من أخطر رجال المخابرات المركزية الأمريكية فى تركيا عندما كان «أردوغان» يرأس أمانة حزب «الرفاه» فى دائرة «باى أوغلو» فى إسطنبول.
زار أبراهاموفيتش «أردوغان» عدة مرات منذ أن صار الأخير محافظا لإسطنبول، حاملا له رسائل «إيجابية» كثيرة من الإدارة الأمريكية، وكانت الزيارات بين السفير الأمريكى الأسبق ومحافظ إسطنبول تستمر لعدة ساعات. كان ملخص الرسالة التى نقلتها واشنطن إلى «أردوغان» من خلال سفيرها السابق، كما يقول «جنجور»، هى «أنت رجل شديد الأهمية بالنسبة لمستقبل تركيا فى السنوات القادمة»، وهى الرسالة التى خشى «أردوغان» أن تسبب له حرجا فيما بعد، فخرج مسرعا ليؤكد أنه تلقى هذه الرسائل من «أبراهاموفيتش» نيابة عن حزب الرفاه الذى ينتمى إليه، إلا أن تلك اللقاءات فتحت بالفعل باب التساؤلات والتأويلات فى تركيا، وبدأ الكل يقول إن «أردوغان» يقدم نفسه على أنه البديل والوريث الفعلى لأستاذه، رئيس حزب الرفاه، الذى بدأت واشنطن تضيق به، نجم الدين أربكان.
اللقاءات السرية، التى جمعت بين «أردوغان» ورجل المخابرات المركزية فى أنقرة، كانت موضع تحقيق صحيفة تركية شهيرة، هى «أيدينليك»، فمنذ ما يقرب من 20 عاما، وتحديدا يوم 20 أكتوبر 1996، نشرت «أيدينليك»، تحقيقا مطولا، كشفت فيه عن المسار الذى اتخذه صعود رجب طيب أردوغان للسلطة، والدور الذى لعبته المخابرات المركزية الأمريكية فى تمهيد صعوده لرئاسة الحكومة، بتأييد ومباركة «مورتون أبراهاموفيتش». وحصلت «أيدينليك» التركية على معلوماتها من مصادر مقربة من حزب الرفاه، حزب «أردوغان» الذى انقلب عليه، وعلى رئيسه نجم الدين أربكان الذى كان أول ضحايا رحلة صعود «أردوغان» للسلطة، والذى كان أكثر الناس دراية به وبأساليبه، وترتيباته السرية مع المخابرات الأمريكية.
يقول تحقيق «أيدينليك» إن التواصل بين أمريكا و«أردوغان» استمر لست سنوات قبل وصوله للسلطة. بدأ تواصل «أبراهاموفيتش» مع «أردوغان» على يد أحد الصحفيين اليساريين الذين كانوا يلعبون دورا فى فتح قنوات اتصال بين العالم وبين حزب الرفاه الإسلامى، فـ«أردوغان» لم يكن يتردد فى استخدام كل التيارات السياسية، حتى تلك التى تختلف تماما مع رؤيته «الإسلامية»، فى سبيل تحقيق أهدافه السياسية.
وكانت معظم لقاءات «أردوغان» وأبراهاموفيتش سرية، خاصة أن «أبراهاموفيتش»، كما تقول «أيدينليك» أحد أخطر رجال المخابرات المركزية الأمريكية الذين قيل عنهم إنهم يعشقون «إدارة البلاد بخيوط من وراء ستار، وعرف عنه أنه أينما حل حلت الاضطرابات معه. وكان أول من قال عنه إنه يحب تحريك خيوط السيطرة على البلاد عن بعد، هو رئيس وزراء تايلاندى سابق أطاح به أبراهاموفيتش فى انقلاب مدبر عام 1980.
كان ضحية «انقلاب» أبراهاموفيتش فى تركيا هذه المرة هو رئيس حزب الرفاه، ورئيس الحكومة التركية «نجم الدين أربكان». وكان أداته فى تنفيذ هذا الانقلاب هو تلميذ أربكان: رجب طيب أردوغان.
قال أبراهاموفيتش للمقربين منه صراحة: «إننا فى أمريكا نفضل أردوغان على أربكان». وظل يحمل له العديد من الرسائل «الدافئة» من الولايات المتحدة، على الرغم من أن أربكان كان وقتها الرئيس الشرعى للبلاد. وعندما سئل أبراهاموفيتش: لماذا كل هذا التعامل الأمريكى الدافئ مع أردوغان؟ رد قائلا: «لأنه قام بواجبه على أكمل وجه عندما كان محافظا لإسطنبول».
ولم يحدد «أبراهاموفيتش» طبيعة «الواجب» الذى أداه التلميذ النجيب «أردوغان» على أكمل وجه. كان دبلوماسيا محنكا، يعرف كيف يدارى نواياه بالكلام المنمق الذى لا يختلف كثيرا عن «نعومة» «أردوغان»، وهو يؤكد أنه لا يملك أى مطامع فى زعامة تركيا، لكن لم يلبث «أردوغان» أن اطمأن تدريجيا لدعم «أبراهاموفيتش» له فى طموحه السياسى. وبدأ أبراهاموفيتش من جانبه يشعر أن رهانه على «أردوغان» رابح. لذلك خرج الدبلوماسى ورجل المخابرات الأمريكى المحنك فى أبريل 1994، عن صمته، وقال صراحة: «رجب طيب أردوغان يبدو أكثر ذكاء وأكثر بريقا من أربكان، نحن فى أمريكا نفضل «أردوغان» على أربكان».
وبعدها، التقى أبراهاموفيتش بـ«أردوغان» فى إسطنبول فى لقاء استمر أكثر من 75 دقيقة، لم يعرف أحد ما الذى دار فيه، إلا أن الكل أدرك بعدها أن طريق «أردوغان» للسلطة صار يحظى بمباركة أمريكية رسمية.
لقاءات الغرف المغلقة لـ«أردوغان» ضمت بوش الابن ومسئولى المخابرات المركزية واللوبى اليهودى للحصول على دعمهم
واشتدت حدة الصراع الخفى بين «أردوغان» و«أربكان». راح «أردوغان» يجهز نفسه لتأسيس تيار إصلاحى داخل حزبه، ويواصل «نصوح جنجور»، أنه بعد أن التقى «أردوغان» برجال الأعمال الأتراك ليرسم المسار الذى سيسير فيه حزبه، قرر أن تكون خطوته التالية هى زيارة أمريكا فى مايو 2000، ولقاء الزعيم الدينى الشيخ «فتح الله جولن»، رئيس حركة «نورجولوك» الإسلامية، المقيم فى الولايات المتحدة، والمعارض الشرس لسياسات نجم الدين أربكان فى تركيا.
حظى «أردوغان» بمباركة «جولن»، عدو معلمه السابق «أربكان»، وحصل أيضاً على دعم وتأييد الكيانات الإعلامية والاقتصادية التى يسيطر عليها «جولن»، وعلى رأسها صحيفة «توداى زمان»، وقناة «سما-8» التليفزيونية، ليبدأ بعدها تدعيم خطته من خلال الاستعانة بقوة أخرى شديدة التأثير فى المجتمع التركى، وهى المؤسسة العسكرية.
كان «أردوغان» شديد الشراسة فى إصراره على إقامة حزب جديد على جثة حزب رئيسه السابق، إلى حد أنه لم يتردد فى أن يضع يده فى يد كل أعداء أربكان، بمن فيهم الجيش، الذى اتهمه بعد أن أصبح رئيسا لوزراء تركيا فيما بعد بالانقلاب على أربكان فى قضية شهيرة أطاحت بمعظم رؤوس الجيش التركى، وعرفت باسم قضية «أرجنكون». عندما كان «أردوغان» يشق طريقه للسلطة، كان الجيش صديقا له ما دام كان عدوا لعدوه «أربكان».
ويتابع «جنجور» أنه فى مرحلة تأسيس حزب «العدالة والتنمية»، التقى «أردوغان» عدة مرات بالجنرال «شفيق بير»، وهو أحد الوجوه البارزة فى المؤسسة العسكرية التركية، وكان يتولى ساعتها منصب قائد الجيش الأول التركى، وأصبح، بعد أن تولى «أردوغان» رئاسة الوزراء، مهندس التحالف والتقارب العسكرى بين تركيا وإسرائيل.
يقول «جنجور» إن اتصالات الجيش التركى بـ«أردوغان» بدأت بمجرد خروجه من السجن، واستمر لقاء الجنرال «بير» الأول مع «أردوغان» عدة ساعات، وأعقبه لقاء آخر لهما معا فى الولايات المتحدة الأمريكية، وتحت رعايتها. فى ذلك اللقاء، نقل «أردوغان» للجنرال التركى رغبته فى تأسيس حزب سياسى مستقل عن حزب أربكان، وسأله كثيرا عن رأى الجيش فى ذلك، وكان رد «شفيق بير» على «أردوغان»: «ماضيك السياسى لا يهمنا (فى إشارة إلى تفاخر «أردوغان» بإنجازاته كمحافظ لإسطنبول، أو ماضيه الملوث بوصفه «سجين سابق») إن الجيش سينتظر ليرى ما الذى ستحققه اليوم. وتعددت لقاءات «أردوغان» بعدها بكبار قادة الجيش فى مرحلة تأسيس حزبه الجديد، ولعب قادة الجيش التركى المتقاعدون، مثل الأدميرال «عطا الله كيات»، دورا فى التقريب بين وجهات نظر المؤسسة العسكرية، و«أردوغان»، وبدأت الصحف التركية تتحدث حتى عن أن رئاسة أركان الجيش تدعم «أردوغان» الإصلاحى.
هنا، بدأ «أردوغان» الانتقال للعب مع طرف ثالث له تأثيره وثقله فى السياسات العالمية، وهو اللوبى اليهودى.
يقول «جنجور» إنه فى 16 يوليو 2000، لبى «أردوغان» دعوة من منظمة يهودية فى الولايات المتحدة، وعقد عدة لقاءات مع الوجوه البارزة فى اللوبى اليهودى فى واشنطن، وقدم لهم رؤيته لحزبه الجديد، وكانت تلك هى زيارته الخامسة لأمريكا فى أقل من 5 أعوام للتجهيز لحزبه. هنا طرح «جنجور» سؤالا منطقيا ومشروعا: «ما الذى كانت الولايات المتحدة تنتظره من رجب طيب أردوغان؟». ورد: «كانت واشنطن ترى بالفعل أن «أردوغان» أقرب إليها من أربكان، وأن أداءه بشكل عام ينسجم مع المصالح الأمريكية حتى وإن كان يختلف معها فى التفاصيل الصغيرة. واعتبرت واشنطن أن «أردوغان» مهم لها بسبب شعبيته الملحوظة بين الشعب التركى.
وهكذا، وجهت السفارة الأمريكية فى أنقرة دعوة لـ«أردوغان» لحضور الاحتفال بعيد الاستقلال الأمريكى فى 4 يوليو 2001، ووضعت السفارة الأمريكية أهمية كبرى على هذه الزيارة، والتقى الملحق السياسى فى السفارة عدة مرات مع «عبدالله جول»، الرئيس التركى الحالى، لكى يفهم منه المسار الذى يريد «أردوغان» السير فيه، قبل أن يؤسس رسميا حزب العدالة والتنمية. وحرص «أردوغان» أيضاً على لقاء السفير الإسرائيلى فى تركيا «ديفيد سلطان» فى 18 يوليو 2001، ليحصل منه على دعمه ومباركته للحزب الذى ينوى تأسيسه.
باختصار، يرى «نصوح جنجور» أن حزب العدالة والتنمية لصاحبه «رجب طيب أردوغان»، هو إنتاج مشترك لمصالح عدة أطراف، أولها مصالح «أردوغان» ورفاقه من مؤسسى الحزب، ثم مصالح المؤسسة العسكرية التركية نفسها كأكبر قوة فى البلاد، ثم مصالح الإدارة الأمريكية واللوبى الصهيونى فى أمريكا، الذين رأوا جميعا فى «أردوغان» «رجلهم» فى المستقبل.
كان على «أردوغان» أن يؤمن رضا واشنطن وإسرائيل والجيش عنه قبل وضع طوبة واحدة فى حزبه الجديد، الذى قدمه على أنه يحمل رؤية إصلاحية لتيار الإسلام السياسى، فى الوقت الذى فهم فيه الجيش التركى رهان أمريكا على «أردوغان» ورجاله، وأنهم سيلعبون دورا مؤثرا فى مستقبل السياسة التركية، فحرصوا على إقامة الروابط اللازمة معه، ليس حبا فيه، وإنما كراهية لرئيس وزراء تركيا السابق، نجم الدين أربكان.
والواقع، أن علاقات «أردوغان» مع واشنطن، واللوبى اليهودى فيها، لعبت دورا كبيرا فيما بعد فى تصعيد «أردوغان» إلى رأس السياسة التركية، رغم وقوف كل السلطات القضائية والتشريعية والرئاسية فى محاولة لمنع هذا الصعود.
كانت هناك حادثة فارقة فى تاريخ «أردوغان»، حادثة جعلته يحمل وصف «سجين سابق»، ووقفت بعناد فى طريق دخوله للبرلمان التركى، ورئاسة حزبه، أو تولى أى منصب سياسى فى الحكومة. ففى 12 ديسمبر 1997، عندما كان رجب طيب أردوغان محافظا لإسطنبول، ألقى القصيدة الشهيرة التى تسببت فى سجنه 10 أشهر، واعتبرها الناس تحريضا على العنف والكراهية الدينية بسبب مطلعها الذى يقول «مساجدنا ثكناتنا، قبابنا خوذتنا، مآذننا حرابنا، والمصلون جنودنا، هذا الجيش المقدس، يحرس ديننا». عاقب القانون الجنائى التركى «أردوغان» بتهم التحريض على الكراهية، وبث الفرقة والانقسام فى المجتمع علنا على أسس دينية وعرقية. وأيدت المحكمة العليا الحكم الصادر ضده فى هذه الاتهامات.
وقتها، قضى حكم المحكمة العليا الذى صدر بأغلبية الأصوات على مستقبل «أردوغان» السياسى. وفى نوفمبر 1998، قرر مجلس الدولة التركى استبعاد «أردوغان» من منصبه كمحافظ لإسطنبول، وخفضت مدة عقوبته فيما بعد ليقضى 4 أشهر فى سجن بينارهيسار، منذ 26 مارس 1999.
خرج «أردوغان» من السجن فى 24 يونيو 1999، ليصبح تركيزه كله فى الحصول على الدعم الأمريكى ليعود للساحة السياسية التركية التى لفظته. كان رهان «أردوغان»، أن مصالح واشنطن معه ستكون أكبر من العقبات القانونية والدستورية التى تقف فى طريق صعوده للسلطة، وأن تدخلات الإدارة الأمريكية الخفية فى سياسة تركيا هى صاحبة الكلمة الأخيرة فى كل ما يحدث فيها.
ورصدت الباحثة والصحفية التركية البارزة «أمينة ديليك» رحلات «أردوغان» لواشنطن التى وصلت حدا غير طبيعى بالنسبة لأى سياسى عادى، وأثارت حتما، انتباه كل من لا يفهمون طبيعة تلك العلاقة الغامضة التى تربط «أردوغان» والأمريكان.
«ديليك»: حزب أردوغان أصبح أقوى قوة سياسية بدعم الغرب رغم أنف القضاء والقانون والدستور
زار رئيس الوزراء التركى واشنطن قبل أن يتولى منصبه الحالى، فى 17 أبريل 1995، وفى 17 نوفمبر 1996، ثم فى 20 ديسمبر 1996، أى بعد مرور أقل من شهر على الزيارة السابقة لها، أعقبها بزيارة فى 26 مارس 1998، وفى 26 يوليو 2000. وزار أمريكا من جديد قبل شهر واحد من تأسيسه لحزب «العدالة والتنمية»، وكانت تلك الزيارة فى 4 يوليو 2001، يوم عيد الاستقلال الأمريكى، وذهب «أردوغان» لواشنطن بناءً على دعوة خاصة من أعلى مستوى هناك.
فى تلك الزيارات التى كان «أردوغان» يحج بها إلى واشنطن بانتظام، كان السياسى التركى الطموح يحرص على لقاء الوجوه البارزة فى اللوبى اليهودى، ومع مجلس العلاقات التركى الأمريكى، والأهم، أنه كان يحرص على لقاء «هنرى باركى»، المسئول عن العلاقات بين تركيا والمخابرات المركزية الأمريكية، و«جراهام فولر»، مسئول المخابرات الأمريكية البارز، الذى كان أكثر من روجوا لنظرية «الإسلام المعتدل»، وسياسة أن تدعم الولايات المتحدة الإسلاميين «المعتدلين» فى السياسة وفى دول الشرق الأوسط، حتى يتصدوا بأنفسهم لأصحاب التيارات والأفكار الأصولية المتطرفة التى تصدر الإرهاب إلى أمريكا. كما تعددت لقاءات «أردوغان» أيضاً مع «ريتشارد بيرل»، أحد الصقور المعروفين فى إدارة بوش الابن، الذين وقفوا بشراسة محرضين ومدافعين عن الغزو الأمريكى للعراق.
كل اجتماعات «أردوغان» مع المسئولين الأمريكان، كما تقول الصحفية التركية، كانت وراء الأبواب المغلقة، لا يعرف أحد ما الذى كان يدور خلفها، ولا كيف كانت واشنطن تخطط لإعادة مسجون سابق، مثل «أردوغان» إلى الساحة السياسية التركية، إلا أن المؤكد أن «أردوغان» أسس مع آخرين حزب «العدالة والتنمية»، الذى يرأسه حتى اليوم، وترشح باسمه فى كل الانتخابات التى خاضها.
فاز «أردوغان» برئاسة الحزب الذى شكله مع أنصار التيار «الإصلاحى» فى حزب الفضيلة، وكان فوزه فى انتخابات حرة نزيهة. لكن فى 21 أغسطس 2001 قدم النائب العام التركى، صابح كانات أوغلو، دعوى قضائية، أعلن فيها أن «أردوغان» لا يمكن أن يكون عضوا مؤسسا لأى حزب سياسى جديد، ولا يمكن أن يتولى أى مناصب إدارية أو قيادية فى حزبه، بسبب إدانته وكونه «سجينا سابقا»، وسارت قضية النائب العام التركى فى مسارها القانونى السليم حتى وصلت إلى المحكمة الدستورية العليا فى تركيا.
من جانبه، كان لـ«أردوغان» مسارا آخر غير المسار القانونى، مسارا يمر عبر عاصمة صنع القرار العالمى فى واشنطن. فزار «أردوغان» الولايات المتحدة فى فبراير 2002، فى الوقت الذى أيدت فيه المحكمة الدستورية التركية فى 9 أكتوبر من العام نفسه، دعوى النائب العام بعدم أحقية «أردوغان» فى تولى منصب سياسى أو حزبى بسبب إدانته السابقة.
وعلى الرغم من أنف كل أحكام القضاء والقانون التركى، أصبح حزب العدالة والتنمية، بمؤسسه رجب طيب «أردوغان»، أقوى قوة سائدة على الساحة السياسية التركية بدعم من قوى غربية كبرى، وجدت أن مصالحها تتوافق معه، حسب قول أمينة ديليك.
وجد «أردوغان»، بكل تلاعبه واستقوائه بالخارج، ومناوراته للضغط والإفلات من السلطة القضائية التركية، نفسه أمام عائق آخر هو السلطة التشريعية: كان سجن «أردوغان» وإدانته السابقة يحولان دون إمكانية دخوله نائبا فى البرلمان، لكن زيارته الأخيرة لأمريكا كانت عاملا حاسما من غير شك فى صعوده للسلطة، ولم تجد الإدارة الأمريكية مانعا من أن يتولى رئيس «بديل» لـ«أردوغان» منصب رئيس حزب العدالة والتنمية لكى يرأس الحكومة التركية، بعد تقدم الحزب فى انتخابات 2002 البرلمانية. وهكذا صار «عبدالله جول»، الرئيس التركى الحالى، هو الرئيس «البديل» لـ«أردوغان» للحكومة التركية الـ58 التى قادها حزب العدالة والتنمية.
تقول «أمينة» إنه بمجرد فوز حكومة حزب العدالة والتنمية برئاسة الحكومة، بدأت واشنطن فى تجهيز «أردوغان» ليصبح بالفعل رجل تنفيذ خططها فى المنطقة، فتواصلت مع حلفائها داخل وخارج تركيا لدعم ذلك الهدف، وزار «أردوغان» واشنطن مرة أخرى فى 11 ديسمبر 2002، والتقى الرئيس جورج بوش الابن، وتحددت ملامح الترتيبات الأمريكية أكثر فى هذا اللقاء.
وكان من الضرورى أولا أن يصبح «أردوغان» عضوا فى البرلمان التركى، قبل أن يجرى دعمه ليصبح بعدها رئيسا لوزراء تركيا. وبناء عليه، أقرت حكومة العدالة والتنمية تعديلا دستوريا ضمنت به رفع الحظر السياسى الذى كان مفروضا على «أردوغان» ويمنعه من أن يصبح نائبا فى البرلمان التركى بسبب كونه سجينا سابقا.
ولم يكن حزب العدالة والتنمية هو الذى مرر مشروع القرار مباشرة على مجلس الشعب، بل استعان بحزب معارض ظاهريا، متحالف معه فى الواقع وقتها، هو حزب الشعب الجمهورى، الذى أعلن دعمه للقرار ودافع عنه تحت قبة البرلمان حتى لا يبدو أن حزب العدالة والتنمية يفصّل القوانين لخدمة رجاله، ورفع الحواجز القانونية التى تقف أمام صعود «أردوغان» للسلطة، وهى تقريبا نفس السياسة التى اتبعها نواب «الحرية والعدالة» فى برلمانهم المنحل، خصوصا مع بعض القوانين سيئة السمعة كريهة الرائحة مثل قانون «العزل السياسى»، الذى تبنته بعض القوى «الثورية»، وليس الإخوان مباشرة، لمنع أسماء بعينها من الترشح للرئاسة.
وترى «أمينة» أن اتفاق بعض أحزاب المعارضة مع حزب العدالة والتنمية على تمرير قانون لا يخدم سوى مصالح «أردوغان»، هو أكبر دليل على وجود صفقة مشبوهة بين حزب الحكومة، ورئيس حزب الشعب الجمهورى وقتها، «دينيز باياكال»، الذى كان يملك أسبابه وحساباته، وربما تحالفاته مع واشنطن التى دفعته لمساندة «أردوغان» باتفاقات من تحت الطاولة، الأمر الذى فجر حملة صحفية شرسة ضد حزبى الحكومة والمعارضة، وكتب الصحفى التركى «زولفو ليفانلى» تحقيقا كاشفا، أكد فيه أن «أردوغان»، التقى فى اجتماع سرى، «دينيز باياكال»، قبل الانتخابات فى إسطنبول، وعقد معه اتفاقا سريا لم يعرفه أحد وقتها.
وخرج بعدها أحد كبار المسئولين فى حزب الشعب الجمهورى المعارض، وهو «ياسر نورى أوزتورك»، ليقدم معلومات أكثر دقة وتفصيلا عن الاجتماع الذى جمع بين «أردوغان» وبين رئيس حزب المعارضة، وأكد أن «أردوغان» وعد «باياكال» أن يساعده على أن يصبح رئيسا لتركيا، لو أن «باياكال» ساعده بدوره على رفع القيود المفروضة على دخول «أردوغان» للبرلمان بسبب إدانته السابقة، إلا أن ذلك اللقاء ظل سريا حتى عن بعض الوجوه البارزة فى الحزبين، وإن تسربت رائحته الكريهة إلى الصحف.
وتساءلت الصحفية التركية: «يحق لنا الآن أن نتساءل: ما نوع المفاوضات والصفقات التى شق بها «أردوغان» طريقه إلى قمة الحياة السياسية فى تركيا؟ ما الصفقة التى عقدها مع رئيس حزب المعارضة، والأهم، من كانت تلك القوى السرية التى توسطت فى هذا اللقاء، وساعدت أكثر فى تمهيد طريق «أردوغان» للبرلمان؟».
وتواصل: «الإجابة جاءت على لسان رئيس حزب الفضيلة الأسبق، والأستاذ السابق لـ«أردوغان»، نجم الدين أربكان، الذى قال صراحة فى لقاء صحفى معه بعد خروجه من السلطة: «إن قوى غربية هى التى جعلت من حزب العدالة والتنمية الحزب الحاكم للبلاد، وظلت تستخدم حزب «أردوغان» لفترة طويلة من أجل تنفيذ سياستها وأوامرها وأجندتها الخاصة بالمنطقة».
وفى النهاية، نجح «أردوغان» بصفقاته السرية، ودعم أمريكا له فى تمرير القرار الذى يرفع العزل السياسى عنه فى البرلمان بأغلبية الأصوات، إلا أنه واجه فى تلك اللحظة اعتراضا من آخر سلطة باقية فى البلاد، وهى السلطة التنفيذية الرئاسية.
كان رئيس تركيا وقتها «أحمد نجدت سيزر»، واحدا ممن فهموا على الفور المسار الذى يتخذه «أردوغان» فى صعوده، وما يمثله تمرير القانون الذى يسمح لسجين سابق بدخول البرلمان على الرغم من أنف الدستور والقانون التركى، فاستخدم «سيزر» حقه الدستورى فى الاعتراض على القرار الذى وافق عليه البرلمان، بحجة أنه قرار «شخصى ومفصل وجامد أكثر مما ينبغى»، فعاد مشروع القرار للبرلمان، الذى صوت بالموافقة عليه للمرة الثانية. وهنا كان على الرئيس التركى أن يوافق على القرار، مرغما، واحتراما للدستور، نفس الدستور الذى لم يتردد «أردوغان» فى التلاعب به من أجل مصالحه. كانت كل تحركات «أردوغان» فى طريقه للبرلمان، تقدم صورة واضحة وصريحة لشكل الزعيم الذى ينوى أن يكونه بعد وصوله للسلطة. زعيم لا يعرف القانون إلا حين يريد كسره، ولا يرى فى الدستور إلا خشبة طافية، يعتليها للوصول إلى المرفأ الذى يريده قبل أن يتركها للبحر. إن كل تحركات «أردوغان» للوصول للسلطة كانت تعكس تفكير سياسى، تجاوز مرحلة «الحنكة والبراعة» فى اللعب بكل الأوراق، إلى مرحلة التلاعب والخداع وكسر أنف القواعد والقوانين حتى العادلة منها، ولم يعد هناك مانع قانونى أو دستورى يحول بين «أردوغان» وبين دخوله للبرلمان، إلا أنه كان هناك عائق آخر.
ففى اللحظة التى انتهت فيها كل السلطات القضائية والتشريعية والتنفيذية من محاولة منع مشروع القرار الذى يتيح لـ«أردوغان» مواصلة طريقه إلى السلطة، كان البرلمان التركى فى تلك الفترة تشكل بالفعل، فكيف يمكن أن يصبح «أردوغان» عضوا فى برلمان قائم، انتهت انتخاباته التشريعية من الأساس؟
هنا، كانت واشنطن وحلفاؤها جاهزين للتدخل فى المعادلة من جديد، إن القوى الذى وصلت بـ«أردوغان» لتلك النقطة رغم إرادة كل القوى الأخرى فى تركيا، كانت جاهزة لدعم رجلها فى تركيا حتى النهاية.
وبدأت تلك القوى، كما تقول أمينة ديليك، فى الإطاحة بنائب البرلمان «فاضل أكجوندوز» عن دائرة «سيرت»، حين أخرجته فضيحة سابقة له. وجرت إعادة الانتخابات البرلمانية فى دائرة «سيرت»، وانسحب نائب «العدالة والتنمية»، مروان جول، الذى كان على رأس المرشحين للدائرة، لمصلحة رجب طيب أردوغان، وفى 8 مارس 2003، أصبح «أردوغان» نائبا فى البرلمان التركى عن دائرة سيرت، بأغلبية 85% من الأصوات.
لم تعد الأمور فيما بعد بالصعوبة نفسها بالنسبة لـ«أردوغان»، فبعد 3 أيام من دخوله للبرلمان، وفى 11 مارس 2003، وعلى طريقة الرئيس «الأستبن» تقدم رئيس الحكومة عبدالله جول باستقالته، ليكلف الرئيس التركى رجب طيب أردوغان بتشكيل حكومة جديدة، حملت رقم الحكومة «59» فى تاريخ تركيا، وهى الحكومة التى شكلها «أردوغان» فى 15 مارس 2003.
قال السياسى التركى «دولت باهشلى»، رئيس حزب الحركة القومية المعارض، يومها: القادة الغربيون، ورجالهم فى تركيا، ساعدوا حزب العدالة والتنمية على الفوز منفردا فى الانتخابات. إن حزب «أردوغان» يدعى أنه خلع عباءة «القومية» التركية، لكن الواقع أنه ارتدى عباءة جديدة، كتب عليها من الأمام «الولايات المتحدة» ومن الخلف «الاتحاد الأوروبى»، تلك هى القوى الحقيقية التى لها مصلحة فى صعود «أردوغان» السريع للسلطة».
وتحدى «باهشلى» «أردوغان» صراحة، أن يكشف للرأى العام التركى حقيقة ما جرى فى 116 يوما، هى الفترة التى استغرقها تمرير القانون الذى يسمح له بالدخول للبرلمان ثم رئاسة الحكومة على الرغم من كونه سجينا سابقا. وقال «باهشلى»: «يوما ما سيكشف التاريخ عن حقيقة ما جرى فى الخفاء فى هذه الفترة، سيكشف التاريخ عن ما جرى وراء جدران غرف الاجتماعات المغلقة، والعلاقات السرية والغامضة التى صنعت من سجين سابق رئيسا للحكومة». حفظ «أردوغان» لأمريكا الجميل جيدا، وردت عليه الإدارات الأمريكية المتعاقبة منذ عهد جورج بوش الابن وحتى إدارة باراك أوباما الحالية، بدعمه وتأييده فى مواجهة كل العقبات التى تظهر فى وجه حكمه، وحتى لو تحول هذا الحكم إلى حكم ديكتاتورى مستبد، أشعل تركيا كلها فى مظاهرات صاخبة كالتى شهدها ميدان «تقسيم» التركى مؤخرا، وشهدت قمعا همجيا من شرطة «أردوغان»، كان من الممكن أن تطيح بأى ديكتاتور آخر غيره، لولا أن التزمت أمريكا الصمت أمام ممارساته، إلى حد دفع مجلة «أمريكان كونسرفاتيف» السياسية الأمريكية للتعليق: «أردوغان لن يذهب طالما ظل أوباما فى البيت الأبيض، لأن الرئيس الأمريكى الحالى لن يسمح بسقوط حليفه التركى مهما كان الثمن».
وتواصل المجلة فى تحليل كاتبها «دانييل لاريسون» للعلاقة التى تربط بين «أردوغان» والإدارة الأمريكية: «دعم الإدارة الأمريكية غير المشروط لحزب العدالة والتنمية الذى يرأسه «أردوغان» مستمر منذ بدايات 2000، حتى قبل أن يتولى «أردوغان» رئاسة الحكومة رسميا فى بلاده، وبعد أن تولى رئاسة الحكومة، سعت الإدارة الأمريكية بشكل محموم لإدماج تركيا فى الاتحاد الأوروبى، على الرغم من الاعتراضات الشديدة للدول الأعضاء فيه».
وحذرت المجلة فى النهاية من أنه مهما كانت قوة مساندة ودعم أمريكا لـ«أردوغان»، فإنه لن يقدر على الصمود كثيرا فى مواجهة الغضب الشعبى الجارف الذى بدأ يطل برأسه بوتيرة متسارعة منذ أحداث ميدان «تقسيم»، وأضافت: «لو انهار الدعم والتأييد الشعبى لحزب العدالة والتنمية الذى يرأسه «أردوغان»، كما بدأ يحدث اليوم، ولو أن حلفاء «أردوغان» قرروا أنهم سيكونون أفضل حالا بخروجه من السلطة اليوم، بعد أن كان بقاؤه فيها نافعا لهم بالأمس، إذن، فنحن نشهد بداية صارخة ومعلنة لانهيار «أردوغان» وسقوطه. ولن تعنى رغبة أوباما وإصراره فى الإبقاء على «أردوغان» شيئا فى بلد صارت الغالبية العظمى فيه تكره الولايات المتحدة الأمريكية إلى درجة قاسية».
هل يمكن إذن أن يفقد «أردوغان» يوما ما دعم الإدارة الأمريكية له، فتتركه لمصيره الذى تأجل كثيرا بسبب تدخلها لدعمه والحفاظ على بقائه فى منصبه؟
ربما تكمن الإجابة على لسان «مورتون أبراهاموفيتش»، نفس السفير الأمريكى السابق الذى كان أول من نقل الرسائل الأمريكية «الدافئة» للسياسى التركى الطموح، وكان أحد المسئولين عن التواصل الأمريكى مباشرة معه. خرج أبراهاموفيتش عن صمته بعد سنوات طويلة، ليتحدث عن الفارق بين «أردوغان» الذى صنعته أمريكا فى البداية، و«أردوغان» الذى تحول وحشا مجنونا لا يبدو أن من الممكن السيطرة عليه. كتب أبراهاموفيتش مقالا فى مجلة «ناشيونال إنترست» الأمريكية، بعد فترة قصيرة من اندلاع ثورات الربيع العربى، والتحركات المحمومة التى ظهر بها رجب طيب أردوغان، محاولا أن يؤكد للعالم كله أنه الزعيم الحقيقى للعالم الإسلامى، فى حالة متقدمة من النرجسية وجنون العظمة، كان «أبراهاموفيتش» نفسه هو أول من لاحظها، ربما لأنه ساهم مبكرا جدا فى صنعها.
قال السفير الأمريكى السابق فى مقاله المنشور بتاريخ 19 أكتوبر 2011: إن من يتابع كلام «أردوغان» ومواقفه، يلاحظ أنه يقدم نفسه فى صورة «المنقذ» بالنسبة للعالم الإسلامى، وأنه يشعر بشكل ما أنه مكلّف بقيادته، إلى حد أنه لم يتردد يوما ما فى الذهاب إلى الصومال مثلا لكى يقدم نفسه على أنه منقذ المسلمين أينما كانوا. لكن، على الرغم من تلك الجهود، فإن لغة وخطاب «أردوغان» تكشف أنه يعتبر أن كل شىء متعلق به، ويتمحور حوله. وهو لا يرى فى «المستضعفين» الذين يدعى نصرتهم، إلا فرصة لإظهار حجم نفوذ تركيا تحت قيادته، واستعراض عضلاته السياسية أمام المجتمع الدولى. ويتابع «أبراهاموفيتش»: «أردوغان» لديه قناعة كاملة أنه مكلف «بمهمة»، وهو يدرك جيدا أن هناك علاقة قوية تربطه بالولايات المتحدة الأمريكية وأهدافها ومصالحها فى العالم والشرق الأوسط، إلا أن طموحه الجامح الذى لا يعرف سقفا، وتصوره الدينى للعالم، كلها تصنع مزيجا متفجرا قابلا للاشتعال فى أية لحظة، بشكل يجعل منه حليفا يصعب الاعتماد كثيرا عليه.
رسالة واشنطن لـ«أردوغان» قبل تأسيس حزبه: «أنت رجلنا المفضل.. لقد قمت بواجبك كمحافظ لإسطنبول على أكمل وجه»
يمكن تلخيص رحلة صعود «أردوغان» إلى رأس السلطة فى تركيا، بأنها بدأت بالانقلاب على أستاذه ومعلمه ورئيس حزبه «نجم الدين أربكان»، وسارت فى طريق التحالفات المشبوهة وراء الأبواب المغلقة فى مكاتب المخابرات الأمريكية واللوبى اليهودى فى واشنطن، قبل أن تستمر بكسر أنف القانون والدستور، ولى عنق قرارات البرلمان، والبراعة فى تصنيع أكاذيب عن إنجازات وهمية، يفوق حجم الكلام عنها حجم ما ينفد على الأرض.
أى أن كتالوج الكذب والخيانة والتلاعب الإخوانى التركى، لا يختلف كثيرا عن مثيله فى مصر.
يرصد الكاتب والصحفى التركى «نصوح جنجور»، فى كتاب «أطياف الحركات الإسلامية»، بدايات «أردوغان» فى شق طريقه للسلطة بالانقلاب على رئيسه «أربكان». يرصد الطريقة التى كون بها «أردوغان» حزبه «العدالة والتنمية»، وكيف اعتمد على اللعب بكل الأوراق، ومداعبة كل المصالح لأمريكا ولإسرائيل وحتى للجيش التركى الذى حاكم وطارد وسجن ضباطه بعد وصوله للحكم، ليشق لنفسه طريقا فى قلب السلطة التركية، تمهيدا للوصول إلى رأسها.
يقول جنجور: «بعد فترة من ظهور «أردوغان» على الساحة السياسية التركية، لاحظ عدد كبير من الكتاب والباحثين والسفراء والمسئولين الأمريكان طموحه وصعوده، وبدأوا يقدمونه على أنه القائد القادم للإصلاحيين فى تركيا، ووجه عصرى يمكنه قيادة المرحلة القادمة، واستشهدوا بالنتائج الملموسة فى تحسين الأوضاع التى شهدتها فترة حكمه، كمحافظ لإسطنبول فى الفترة بين عامى 1994 و1998. ويؤكد «جنجور» أن العلاقات بين «أردوغان» والولايات المتحدة بدأت بلقاءات متعددة جمعت بينه وبين السفير الأمريكى الأسبق بأنقرة «مورتون أبراهاموفيتش» فى الثمانينات، الذى صار واحدا من أخطر رجال المخابرات المركزية الأمريكية فى تركيا عندما كان «أردوغان» يرأس أمانة حزب «الرفاه» فى دائرة «باى أوغلو» فى إسطنبول.
زار أبراهاموفيتش «أردوغان» عدة مرات منذ أن صار الأخير محافظا لإسطنبول، حاملا له رسائل «إيجابية» كثيرة من الإدارة الأمريكية، وكانت الزيارات بين السفير الأمريكى الأسبق ومحافظ إسطنبول تستمر لعدة ساعات. كان ملخص الرسالة التى نقلتها واشنطن إلى «أردوغان» من خلال سفيرها السابق، كما يقول «جنجور»، هى «أنت رجل شديد الأهمية بالنسبة لمستقبل تركيا فى السنوات القادمة»، وهى الرسالة التى خشى «أردوغان» أن تسبب له حرجا فيما بعد، فخرج مسرعا ليؤكد أنه تلقى هذه الرسائل من «أبراهاموفيتش» نيابة عن حزب الرفاه الذى ينتمى إليه، إلا أن تلك اللقاءات فتحت بالفعل باب التساؤلات والتأويلات فى تركيا، وبدأ الكل يقول إن «أردوغان» يقدم نفسه على أنه البديل والوريث الفعلى لأستاذه، رئيس حزب الرفاه، الذى بدأت واشنطن تضيق به، نجم الدين أربكان.
اللقاءات السرية، التى جمعت بين «أردوغان» ورجل المخابرات المركزية فى أنقرة، كانت موضع تحقيق صحيفة تركية شهيرة، هى «أيدينليك»، فمنذ ما يقرب من 20 عاما، وتحديدا يوم 20 أكتوبر 1996، نشرت «أيدينليك»، تحقيقا مطولا، كشفت فيه عن المسار الذى اتخذه صعود رجب طيب أردوغان للسلطة، والدور الذى لعبته المخابرات المركزية الأمريكية فى تمهيد صعوده لرئاسة الحكومة، بتأييد ومباركة «مورتون أبراهاموفيتش». وحصلت «أيدينليك» التركية على معلوماتها من مصادر مقربة من حزب الرفاه، حزب «أردوغان» الذى انقلب عليه، وعلى رئيسه نجم الدين أربكان الذى كان أول ضحايا رحلة صعود «أردوغان» للسلطة، والذى كان أكثر الناس دراية به وبأساليبه، وترتيباته السرية مع المخابرات الأمريكية.
يقول تحقيق «أيدينليك» إن التواصل بين أمريكا و«أردوغان» استمر لست سنوات قبل وصوله للسلطة. بدأ تواصل «أبراهاموفيتش» مع «أردوغان» على يد أحد الصحفيين اليساريين الذين كانوا يلعبون دورا فى فتح قنوات اتصال بين العالم وبين حزب الرفاه الإسلامى، فـ«أردوغان» لم يكن يتردد فى استخدام كل التيارات السياسية، حتى تلك التى تختلف تماما مع رؤيته «الإسلامية»، فى سبيل تحقيق أهدافه السياسية.
وكانت معظم لقاءات «أردوغان» وأبراهاموفيتش سرية، خاصة أن «أبراهاموفيتش»، كما تقول «أيدينليك» أحد أخطر رجال المخابرات المركزية الأمريكية الذين قيل عنهم إنهم يعشقون «إدارة البلاد بخيوط من وراء ستار، وعرف عنه أنه أينما حل حلت الاضطرابات معه. وكان أول من قال عنه إنه يحب تحريك خيوط السيطرة على البلاد عن بعد، هو رئيس وزراء تايلاندى سابق أطاح به أبراهاموفيتش فى انقلاب مدبر عام 1980.
كان ضحية «انقلاب» أبراهاموفيتش فى تركيا هذه المرة هو رئيس حزب الرفاه، ورئيس الحكومة التركية «نجم الدين أربكان». وكان أداته فى تنفيذ هذا الانقلاب هو تلميذ أربكان: رجب طيب أردوغان.
قال أبراهاموفيتش للمقربين منه صراحة: «إننا فى أمريكا نفضل أردوغان على أربكان». وظل يحمل له العديد من الرسائل «الدافئة» من الولايات المتحدة، على الرغم من أن أربكان كان وقتها الرئيس الشرعى للبلاد. وعندما سئل أبراهاموفيتش: لماذا كل هذا التعامل الأمريكى الدافئ مع أردوغان؟ رد قائلا: «لأنه قام بواجبه على أكمل وجه عندما كان محافظا لإسطنبول».
ولم يحدد «أبراهاموفيتش» طبيعة «الواجب» الذى أداه التلميذ النجيب «أردوغان» على أكمل وجه. كان دبلوماسيا محنكا، يعرف كيف يدارى نواياه بالكلام المنمق الذى لا يختلف كثيرا عن «نعومة» «أردوغان»، وهو يؤكد أنه لا يملك أى مطامع فى زعامة تركيا، لكن لم يلبث «أردوغان» أن اطمأن تدريجيا لدعم «أبراهاموفيتش» له فى طموحه السياسى. وبدأ أبراهاموفيتش من جانبه يشعر أن رهانه على «أردوغان» رابح. لذلك خرج الدبلوماسى ورجل المخابرات الأمريكى المحنك فى أبريل 1994، عن صمته، وقال صراحة: «رجب طيب أردوغان يبدو أكثر ذكاء وأكثر بريقا من أربكان، نحن فى أمريكا نفضل «أردوغان» على أربكان».
وبعدها، التقى أبراهاموفيتش بـ«أردوغان» فى إسطنبول فى لقاء استمر أكثر من 75 دقيقة، لم يعرف أحد ما الذى دار فيه، إلا أن الكل أدرك بعدها أن طريق «أردوغان» للسلطة صار يحظى بمباركة أمريكية رسمية.
لقاءات الغرف المغلقة لـ«أردوغان» ضمت بوش الابن ومسئولى المخابرات المركزية واللوبى اليهودى للحصول على دعمهم
واشتدت حدة الصراع الخفى بين «أردوغان» و«أربكان». راح «أردوغان» يجهز نفسه لتأسيس تيار إصلاحى داخل حزبه، ويواصل «نصوح جنجور»، أنه بعد أن التقى «أردوغان» برجال الأعمال الأتراك ليرسم المسار الذى سيسير فيه حزبه، قرر أن تكون خطوته التالية هى زيارة أمريكا فى مايو 2000، ولقاء الزعيم الدينى الشيخ «فتح الله جولن»، رئيس حركة «نورجولوك» الإسلامية، المقيم فى الولايات المتحدة، والمعارض الشرس لسياسات نجم الدين أربكان فى تركيا.
حظى «أردوغان» بمباركة «جولن»، عدو معلمه السابق «أربكان»، وحصل أيضاً على دعم وتأييد الكيانات الإعلامية والاقتصادية التى يسيطر عليها «جولن»، وعلى رأسها صحيفة «توداى زمان»، وقناة «سما-8» التليفزيونية، ليبدأ بعدها تدعيم خطته من خلال الاستعانة بقوة أخرى شديدة التأثير فى المجتمع التركى، وهى المؤسسة العسكرية.
كان «أردوغان» شديد الشراسة فى إصراره على إقامة حزب جديد على جثة حزب رئيسه السابق، إلى حد أنه لم يتردد فى أن يضع يده فى يد كل أعداء أربكان، بمن فيهم الجيش، الذى اتهمه بعد أن أصبح رئيسا لوزراء تركيا فيما بعد بالانقلاب على أربكان فى قضية شهيرة أطاحت بمعظم رؤوس الجيش التركى، وعرفت باسم قضية «أرجنكون». عندما كان «أردوغان» يشق طريقه للسلطة، كان الجيش صديقا له ما دام كان عدوا لعدوه «أربكان».
ويتابع «جنجور» أنه فى مرحلة تأسيس حزب «العدالة والتنمية»، التقى «أردوغان» عدة مرات بالجنرال «شفيق بير»، وهو أحد الوجوه البارزة فى المؤسسة العسكرية التركية، وكان يتولى ساعتها منصب قائد الجيش الأول التركى، وأصبح، بعد أن تولى «أردوغان» رئاسة الوزراء، مهندس التحالف والتقارب العسكرى بين تركيا وإسرائيل.
يقول «جنجور» إن اتصالات الجيش التركى بـ«أردوغان» بدأت بمجرد خروجه من السجن، واستمر لقاء الجنرال «بير» الأول مع «أردوغان» عدة ساعات، وأعقبه لقاء آخر لهما معا فى الولايات المتحدة الأمريكية، وتحت رعايتها. فى ذلك اللقاء، نقل «أردوغان» للجنرال التركى رغبته فى تأسيس حزب سياسى مستقل عن حزب أربكان، وسأله كثيرا عن رأى الجيش فى ذلك، وكان رد «شفيق بير» على «أردوغان»: «ماضيك السياسى لا يهمنا (فى إشارة إلى تفاخر «أردوغان» بإنجازاته كمحافظ لإسطنبول، أو ماضيه الملوث بوصفه «سجين سابق») إن الجيش سينتظر ليرى ما الذى ستحققه اليوم. وتعددت لقاءات «أردوغان» بعدها بكبار قادة الجيش فى مرحلة تأسيس حزبه الجديد، ولعب قادة الجيش التركى المتقاعدون، مثل الأدميرال «عطا الله كيات»، دورا فى التقريب بين وجهات نظر المؤسسة العسكرية، و«أردوغان»، وبدأت الصحف التركية تتحدث حتى عن أن رئاسة أركان الجيش تدعم «أردوغان» الإصلاحى.
هنا، بدأ «أردوغان» الانتقال للعب مع طرف ثالث له تأثيره وثقله فى السياسات العالمية، وهو اللوبى اليهودى.
يقول «جنجور» إنه فى 16 يوليو 2000، لبى «أردوغان» دعوة من منظمة يهودية فى الولايات المتحدة، وعقد عدة لقاءات مع الوجوه البارزة فى اللوبى اليهودى فى واشنطن، وقدم لهم رؤيته لحزبه الجديد، وكانت تلك هى زيارته الخامسة لأمريكا فى أقل من 5 أعوام للتجهيز لحزبه. هنا طرح «جنجور» سؤالا منطقيا ومشروعا: «ما الذى كانت الولايات المتحدة تنتظره من رجب طيب أردوغان؟». ورد: «كانت واشنطن ترى بالفعل أن «أردوغان» أقرب إليها من أربكان، وأن أداءه بشكل عام ينسجم مع المصالح الأمريكية حتى وإن كان يختلف معها فى التفاصيل الصغيرة. واعتبرت واشنطن أن «أردوغان» مهم لها بسبب شعبيته الملحوظة بين الشعب التركى.
وهكذا، وجهت السفارة الأمريكية فى أنقرة دعوة لـ«أردوغان» لحضور الاحتفال بعيد الاستقلال الأمريكى فى 4 يوليو 2001، ووضعت السفارة الأمريكية أهمية كبرى على هذه الزيارة، والتقى الملحق السياسى فى السفارة عدة مرات مع «عبدالله جول»، الرئيس التركى الحالى، لكى يفهم منه المسار الذى يريد «أردوغان» السير فيه، قبل أن يؤسس رسميا حزب العدالة والتنمية. وحرص «أردوغان» أيضاً على لقاء السفير الإسرائيلى فى تركيا «ديفيد سلطان» فى 18 يوليو 2001، ليحصل منه على دعمه ومباركته للحزب الذى ينوى تأسيسه.
باختصار، يرى «نصوح جنجور» أن حزب العدالة والتنمية لصاحبه «رجب طيب أردوغان»، هو إنتاج مشترك لمصالح عدة أطراف، أولها مصالح «أردوغان» ورفاقه من مؤسسى الحزب، ثم مصالح المؤسسة العسكرية التركية نفسها كأكبر قوة فى البلاد، ثم مصالح الإدارة الأمريكية واللوبى الصهيونى فى أمريكا، الذين رأوا جميعا فى «أردوغان» «رجلهم» فى المستقبل.
كان على «أردوغان» أن يؤمن رضا واشنطن وإسرائيل والجيش عنه قبل وضع طوبة واحدة فى حزبه الجديد، الذى قدمه على أنه يحمل رؤية إصلاحية لتيار الإسلام السياسى، فى الوقت الذى فهم فيه الجيش التركى رهان أمريكا على «أردوغان» ورجاله، وأنهم سيلعبون دورا مؤثرا فى مستقبل السياسة التركية، فحرصوا على إقامة الروابط اللازمة معه، ليس حبا فيه، وإنما كراهية لرئيس وزراء تركيا السابق، نجم الدين أربكان.
والواقع، أن علاقات «أردوغان» مع واشنطن، واللوبى اليهودى فيها، لعبت دورا كبيرا فيما بعد فى تصعيد «أردوغان» إلى رأس السياسة التركية، رغم وقوف كل السلطات القضائية والتشريعية والرئاسية فى محاولة لمنع هذا الصعود.
كانت هناك حادثة فارقة فى تاريخ «أردوغان»، حادثة جعلته يحمل وصف «سجين سابق»، ووقفت بعناد فى طريق دخوله للبرلمان التركى، ورئاسة حزبه، أو تولى أى منصب سياسى فى الحكومة. ففى 12 ديسمبر 1997، عندما كان رجب طيب أردوغان محافظا لإسطنبول، ألقى القصيدة الشهيرة التى تسببت فى سجنه 10 أشهر، واعتبرها الناس تحريضا على العنف والكراهية الدينية بسبب مطلعها الذى يقول «مساجدنا ثكناتنا، قبابنا خوذتنا، مآذننا حرابنا، والمصلون جنودنا، هذا الجيش المقدس، يحرس ديننا». عاقب القانون الجنائى التركى «أردوغان» بتهم التحريض على الكراهية، وبث الفرقة والانقسام فى المجتمع علنا على أسس دينية وعرقية. وأيدت المحكمة العليا الحكم الصادر ضده فى هذه الاتهامات.
وقتها، قضى حكم المحكمة العليا الذى صدر بأغلبية الأصوات على مستقبل «أردوغان» السياسى. وفى نوفمبر 1998، قرر مجلس الدولة التركى استبعاد «أردوغان» من منصبه كمحافظ لإسطنبول، وخفضت مدة عقوبته فيما بعد ليقضى 4 أشهر فى سجن بينارهيسار، منذ 26 مارس 1999.
خرج «أردوغان» من السجن فى 24 يونيو 1999، ليصبح تركيزه كله فى الحصول على الدعم الأمريكى ليعود للساحة السياسية التركية التى لفظته. كان رهان «أردوغان»، أن مصالح واشنطن معه ستكون أكبر من العقبات القانونية والدستورية التى تقف فى طريق صعوده للسلطة، وأن تدخلات الإدارة الأمريكية الخفية فى سياسة تركيا هى صاحبة الكلمة الأخيرة فى كل ما يحدث فيها.
ورصدت الباحثة والصحفية التركية البارزة «أمينة ديليك» رحلات «أردوغان» لواشنطن التى وصلت حدا غير طبيعى بالنسبة لأى سياسى عادى، وأثارت حتما، انتباه كل من لا يفهمون طبيعة تلك العلاقة الغامضة التى تربط «أردوغان» والأمريكان.
«ديليك»: حزب أردوغان أصبح أقوى قوة سياسية بدعم الغرب رغم أنف القضاء والقانون والدستور
زار رئيس الوزراء التركى واشنطن قبل أن يتولى منصبه الحالى، فى 17 أبريل 1995، وفى 17 نوفمبر 1996، ثم فى 20 ديسمبر 1996، أى بعد مرور أقل من شهر على الزيارة السابقة لها، أعقبها بزيارة فى 26 مارس 1998، وفى 26 يوليو 2000. وزار أمريكا من جديد قبل شهر واحد من تأسيسه لحزب «العدالة والتنمية»، وكانت تلك الزيارة فى 4 يوليو 2001، يوم عيد الاستقلال الأمريكى، وذهب «أردوغان» لواشنطن بناءً على دعوة خاصة من أعلى مستوى هناك.
فى تلك الزيارات التى كان «أردوغان» يحج بها إلى واشنطن بانتظام، كان السياسى التركى الطموح يحرص على لقاء الوجوه البارزة فى اللوبى اليهودى، ومع مجلس العلاقات التركى الأمريكى، والأهم، أنه كان يحرص على لقاء «هنرى باركى»، المسئول عن العلاقات بين تركيا والمخابرات المركزية الأمريكية، و«جراهام فولر»، مسئول المخابرات الأمريكية البارز، الذى كان أكثر من روجوا لنظرية «الإسلام المعتدل»، وسياسة أن تدعم الولايات المتحدة الإسلاميين «المعتدلين» فى السياسة وفى دول الشرق الأوسط، حتى يتصدوا بأنفسهم لأصحاب التيارات والأفكار الأصولية المتطرفة التى تصدر الإرهاب إلى أمريكا. كما تعددت لقاءات «أردوغان» أيضاً مع «ريتشارد بيرل»، أحد الصقور المعروفين فى إدارة بوش الابن، الذين وقفوا بشراسة محرضين ومدافعين عن الغزو الأمريكى للعراق.
كل اجتماعات «أردوغان» مع المسئولين الأمريكان، كما تقول الصحفية التركية، كانت وراء الأبواب المغلقة، لا يعرف أحد ما الذى كان يدور خلفها، ولا كيف كانت واشنطن تخطط لإعادة مسجون سابق، مثل «أردوغان» إلى الساحة السياسية التركية، إلا أن المؤكد أن «أردوغان» أسس مع آخرين حزب «العدالة والتنمية»، الذى يرأسه حتى اليوم، وترشح باسمه فى كل الانتخابات التى خاضها.
فاز «أردوغان» برئاسة الحزب الذى شكله مع أنصار التيار «الإصلاحى» فى حزب الفضيلة، وكان فوزه فى انتخابات حرة نزيهة. لكن فى 21 أغسطس 2001 قدم النائب العام التركى، صابح كانات أوغلو، دعوى قضائية، أعلن فيها أن «أردوغان» لا يمكن أن يكون عضوا مؤسسا لأى حزب سياسى جديد، ولا يمكن أن يتولى أى مناصب إدارية أو قيادية فى حزبه، بسبب إدانته وكونه «سجينا سابقا»، وسارت قضية النائب العام التركى فى مسارها القانونى السليم حتى وصلت إلى المحكمة الدستورية العليا فى تركيا.
من جانبه، كان لـ«أردوغان» مسارا آخر غير المسار القانونى، مسارا يمر عبر عاصمة صنع القرار العالمى فى واشنطن. فزار «أردوغان» الولايات المتحدة فى فبراير 2002، فى الوقت الذى أيدت فيه المحكمة الدستورية التركية فى 9 أكتوبر من العام نفسه، دعوى النائب العام بعدم أحقية «أردوغان» فى تولى منصب سياسى أو حزبى بسبب إدانته السابقة.
وعلى الرغم من أنف كل أحكام القضاء والقانون التركى، أصبح حزب العدالة والتنمية، بمؤسسه رجب طيب «أردوغان»، أقوى قوة سائدة على الساحة السياسية التركية بدعم من قوى غربية كبرى، وجدت أن مصالحها تتوافق معه، حسب قول أمينة ديليك.
وجد «أردوغان»، بكل تلاعبه واستقوائه بالخارج، ومناوراته للضغط والإفلات من السلطة القضائية التركية، نفسه أمام عائق آخر هو السلطة التشريعية: كان سجن «أردوغان» وإدانته السابقة يحولان دون إمكانية دخوله نائبا فى البرلمان، لكن زيارته الأخيرة لأمريكا كانت عاملا حاسما من غير شك فى صعوده للسلطة، ولم تجد الإدارة الأمريكية مانعا من أن يتولى رئيس «بديل» لـ«أردوغان» منصب رئيس حزب العدالة والتنمية لكى يرأس الحكومة التركية، بعد تقدم الحزب فى انتخابات 2002 البرلمانية. وهكذا صار «عبدالله جول»، الرئيس التركى الحالى، هو الرئيس «البديل» لـ«أردوغان» للحكومة التركية الـ58 التى قادها حزب العدالة والتنمية.
تقول «أمينة» إنه بمجرد فوز حكومة حزب العدالة والتنمية برئاسة الحكومة، بدأت واشنطن فى تجهيز «أردوغان» ليصبح بالفعل رجل تنفيذ خططها فى المنطقة، فتواصلت مع حلفائها داخل وخارج تركيا لدعم ذلك الهدف، وزار «أردوغان» واشنطن مرة أخرى فى 11 ديسمبر 2002، والتقى الرئيس جورج بوش الابن، وتحددت ملامح الترتيبات الأمريكية أكثر فى هذا اللقاء.
وكان من الضرورى أولا أن يصبح «أردوغان» عضوا فى البرلمان التركى، قبل أن يجرى دعمه ليصبح بعدها رئيسا لوزراء تركيا. وبناء عليه، أقرت حكومة العدالة والتنمية تعديلا دستوريا ضمنت به رفع الحظر السياسى الذى كان مفروضا على «أردوغان» ويمنعه من أن يصبح نائبا فى البرلمان التركى بسبب كونه سجينا سابقا.
ولم يكن حزب العدالة والتنمية هو الذى مرر مشروع القرار مباشرة على مجلس الشعب، بل استعان بحزب معارض ظاهريا، متحالف معه فى الواقع وقتها، هو حزب الشعب الجمهورى، الذى أعلن دعمه للقرار ودافع عنه تحت قبة البرلمان حتى لا يبدو أن حزب العدالة والتنمية يفصّل القوانين لخدمة رجاله، ورفع الحواجز القانونية التى تقف أمام صعود «أردوغان» للسلطة، وهى تقريبا نفس السياسة التى اتبعها نواب «الحرية والعدالة» فى برلمانهم المنحل، خصوصا مع بعض القوانين سيئة السمعة كريهة الرائحة مثل قانون «العزل السياسى»، الذى تبنته بعض القوى «الثورية»، وليس الإخوان مباشرة، لمنع أسماء بعينها من الترشح للرئاسة.
وترى «أمينة» أن اتفاق بعض أحزاب المعارضة مع حزب العدالة والتنمية على تمرير قانون لا يخدم سوى مصالح «أردوغان»، هو أكبر دليل على وجود صفقة مشبوهة بين حزب الحكومة، ورئيس حزب الشعب الجمهورى وقتها، «دينيز باياكال»، الذى كان يملك أسبابه وحساباته، وربما تحالفاته مع واشنطن التى دفعته لمساندة «أردوغان» باتفاقات من تحت الطاولة، الأمر الذى فجر حملة صحفية شرسة ضد حزبى الحكومة والمعارضة، وكتب الصحفى التركى «زولفو ليفانلى» تحقيقا كاشفا، أكد فيه أن «أردوغان»، التقى فى اجتماع سرى، «دينيز باياكال»، قبل الانتخابات فى إسطنبول، وعقد معه اتفاقا سريا لم يعرفه أحد وقتها.
وخرج بعدها أحد كبار المسئولين فى حزب الشعب الجمهورى المعارض، وهو «ياسر نورى أوزتورك»، ليقدم معلومات أكثر دقة وتفصيلا عن الاجتماع الذى جمع بين «أردوغان» وبين رئيس حزب المعارضة، وأكد أن «أردوغان» وعد «باياكال» أن يساعده على أن يصبح رئيسا لتركيا، لو أن «باياكال» ساعده بدوره على رفع القيود المفروضة على دخول «أردوغان» للبرلمان بسبب إدانته السابقة، إلا أن ذلك اللقاء ظل سريا حتى عن بعض الوجوه البارزة فى الحزبين، وإن تسربت رائحته الكريهة إلى الصحف.
وتساءلت الصحفية التركية: «يحق لنا الآن أن نتساءل: ما نوع المفاوضات والصفقات التى شق بها «أردوغان» طريقه إلى قمة الحياة السياسية فى تركيا؟ ما الصفقة التى عقدها مع رئيس حزب المعارضة، والأهم، من كانت تلك القوى السرية التى توسطت فى هذا اللقاء، وساعدت أكثر فى تمهيد طريق «أردوغان» للبرلمان؟».
وتواصل: «الإجابة جاءت على لسان رئيس حزب الفضيلة الأسبق، والأستاذ السابق لـ«أردوغان»، نجم الدين أربكان، الذى قال صراحة فى لقاء صحفى معه بعد خروجه من السلطة: «إن قوى غربية هى التى جعلت من حزب العدالة والتنمية الحزب الحاكم للبلاد، وظلت تستخدم حزب «أردوغان» لفترة طويلة من أجل تنفيذ سياستها وأوامرها وأجندتها الخاصة بالمنطقة».
وفى النهاية، نجح «أردوغان» بصفقاته السرية، ودعم أمريكا له فى تمرير القرار الذى يرفع العزل السياسى عنه فى البرلمان بأغلبية الأصوات، إلا أنه واجه فى تلك اللحظة اعتراضا من آخر سلطة باقية فى البلاد، وهى السلطة التنفيذية الرئاسية.
كان رئيس تركيا وقتها «أحمد نجدت سيزر»، واحدا ممن فهموا على الفور المسار الذى يتخذه «أردوغان» فى صعوده، وما يمثله تمرير القانون الذى يسمح لسجين سابق بدخول البرلمان على الرغم من أنف الدستور والقانون التركى، فاستخدم «سيزر» حقه الدستورى فى الاعتراض على القرار الذى وافق عليه البرلمان، بحجة أنه قرار «شخصى ومفصل وجامد أكثر مما ينبغى»، فعاد مشروع القرار للبرلمان، الذى صوت بالموافقة عليه للمرة الثانية. وهنا كان على الرئيس التركى أن يوافق على القرار، مرغما، واحتراما للدستور، نفس الدستور الذى لم يتردد «أردوغان» فى التلاعب به من أجل مصالحه. كانت كل تحركات «أردوغان» فى طريقه للبرلمان، تقدم صورة واضحة وصريحة لشكل الزعيم الذى ينوى أن يكونه بعد وصوله للسلطة. زعيم لا يعرف القانون إلا حين يريد كسره، ولا يرى فى الدستور إلا خشبة طافية، يعتليها للوصول إلى المرفأ الذى يريده قبل أن يتركها للبحر. إن كل تحركات «أردوغان» للوصول للسلطة كانت تعكس تفكير سياسى، تجاوز مرحلة «الحنكة والبراعة» فى اللعب بكل الأوراق، إلى مرحلة التلاعب والخداع وكسر أنف القواعد والقوانين حتى العادلة منها، ولم يعد هناك مانع قانونى أو دستورى يحول بين «أردوغان» وبين دخوله للبرلمان، إلا أنه كان هناك عائق آخر.
ففى اللحظة التى انتهت فيها كل السلطات القضائية والتشريعية والتنفيذية من محاولة منع مشروع القرار الذى يتيح لـ«أردوغان» مواصلة طريقه إلى السلطة، كان البرلمان التركى فى تلك الفترة تشكل بالفعل، فكيف يمكن أن يصبح «أردوغان» عضوا فى برلمان قائم، انتهت انتخاباته التشريعية من الأساس؟
هنا، كانت واشنطن وحلفاؤها جاهزين للتدخل فى المعادلة من جديد، إن القوى الذى وصلت بـ«أردوغان» لتلك النقطة رغم إرادة كل القوى الأخرى فى تركيا، كانت جاهزة لدعم رجلها فى تركيا حتى النهاية.
وبدأت تلك القوى، كما تقول أمينة ديليك، فى الإطاحة بنائب البرلمان «فاضل أكجوندوز» عن دائرة «سيرت»، حين أخرجته فضيحة سابقة له. وجرت إعادة الانتخابات البرلمانية فى دائرة «سيرت»، وانسحب نائب «العدالة والتنمية»، مروان جول، الذى كان على رأس المرشحين للدائرة، لمصلحة رجب طيب أردوغان، وفى 8 مارس 2003، أصبح «أردوغان» نائبا فى البرلمان التركى عن دائرة سيرت، بأغلبية 85% من الأصوات.
لم تعد الأمور فيما بعد بالصعوبة نفسها بالنسبة لـ«أردوغان»، فبعد 3 أيام من دخوله للبرلمان، وفى 11 مارس 2003، وعلى طريقة الرئيس «الأستبن» تقدم رئيس الحكومة عبدالله جول باستقالته، ليكلف الرئيس التركى رجب طيب أردوغان بتشكيل حكومة جديدة، حملت رقم الحكومة «59» فى تاريخ تركيا، وهى الحكومة التى شكلها «أردوغان» فى 15 مارس 2003.
قال السياسى التركى «دولت باهشلى»، رئيس حزب الحركة القومية المعارض، يومها: القادة الغربيون، ورجالهم فى تركيا، ساعدوا حزب العدالة والتنمية على الفوز منفردا فى الانتخابات. إن حزب «أردوغان» يدعى أنه خلع عباءة «القومية» التركية، لكن الواقع أنه ارتدى عباءة جديدة، كتب عليها من الأمام «الولايات المتحدة» ومن الخلف «الاتحاد الأوروبى»، تلك هى القوى الحقيقية التى لها مصلحة فى صعود «أردوغان» السريع للسلطة».
وتحدى «باهشلى» «أردوغان» صراحة، أن يكشف للرأى العام التركى حقيقة ما جرى فى 116 يوما، هى الفترة التى استغرقها تمرير القانون الذى يسمح له بالدخول للبرلمان ثم رئاسة الحكومة على الرغم من كونه سجينا سابقا. وقال «باهشلى»: «يوما ما سيكشف التاريخ عن حقيقة ما جرى فى الخفاء فى هذه الفترة، سيكشف التاريخ عن ما جرى وراء جدران غرف الاجتماعات المغلقة، والعلاقات السرية والغامضة التى صنعت من سجين سابق رئيسا للحكومة». حفظ «أردوغان» لأمريكا الجميل جيدا، وردت عليه الإدارات الأمريكية المتعاقبة منذ عهد جورج بوش الابن وحتى إدارة باراك أوباما الحالية، بدعمه وتأييده فى مواجهة كل العقبات التى تظهر فى وجه حكمه، وحتى لو تحول هذا الحكم إلى حكم ديكتاتورى مستبد، أشعل تركيا كلها فى مظاهرات صاخبة كالتى شهدها ميدان «تقسيم» التركى مؤخرا، وشهدت قمعا همجيا من شرطة «أردوغان»، كان من الممكن أن تطيح بأى ديكتاتور آخر غيره، لولا أن التزمت أمريكا الصمت أمام ممارساته، إلى حد دفع مجلة «أمريكان كونسرفاتيف» السياسية الأمريكية للتعليق: «أردوغان لن يذهب طالما ظل أوباما فى البيت الأبيض، لأن الرئيس الأمريكى الحالى لن يسمح بسقوط حليفه التركى مهما كان الثمن».
وتواصل المجلة فى تحليل كاتبها «دانييل لاريسون» للعلاقة التى تربط بين «أردوغان» والإدارة الأمريكية: «دعم الإدارة الأمريكية غير المشروط لحزب العدالة والتنمية الذى يرأسه «أردوغان» مستمر منذ بدايات 2000، حتى قبل أن يتولى «أردوغان» رئاسة الحكومة رسميا فى بلاده، وبعد أن تولى رئاسة الحكومة، سعت الإدارة الأمريكية بشكل محموم لإدماج تركيا فى الاتحاد الأوروبى، على الرغم من الاعتراضات الشديدة للدول الأعضاء فيه».
وحذرت المجلة فى النهاية من أنه مهما كانت قوة مساندة ودعم أمريكا لـ«أردوغان»، فإنه لن يقدر على الصمود كثيرا فى مواجهة الغضب الشعبى الجارف الذى بدأ يطل برأسه بوتيرة متسارعة منذ أحداث ميدان «تقسيم»، وأضافت: «لو انهار الدعم والتأييد الشعبى لحزب العدالة والتنمية الذى يرأسه «أردوغان»، كما بدأ يحدث اليوم، ولو أن حلفاء «أردوغان» قرروا أنهم سيكونون أفضل حالا بخروجه من السلطة اليوم، بعد أن كان بقاؤه فيها نافعا لهم بالأمس، إذن، فنحن نشهد بداية صارخة ومعلنة لانهيار «أردوغان» وسقوطه. ولن تعنى رغبة أوباما وإصراره فى الإبقاء على «أردوغان» شيئا فى بلد صارت الغالبية العظمى فيه تكره الولايات المتحدة الأمريكية إلى درجة قاسية».
هل يمكن إذن أن يفقد «أردوغان» يوما ما دعم الإدارة الأمريكية له، فتتركه لمصيره الذى تأجل كثيرا بسبب تدخلها لدعمه والحفاظ على بقائه فى منصبه؟
ربما تكمن الإجابة على لسان «مورتون أبراهاموفيتش»، نفس السفير الأمريكى السابق الذى كان أول من نقل الرسائل الأمريكية «الدافئة» للسياسى التركى الطموح، وكان أحد المسئولين عن التواصل الأمريكى مباشرة معه. خرج أبراهاموفيتش عن صمته بعد سنوات طويلة، ليتحدث عن الفارق بين «أردوغان» الذى صنعته أمريكا فى البداية، و«أردوغان» الذى تحول وحشا مجنونا لا يبدو أن من الممكن السيطرة عليه. كتب أبراهاموفيتش مقالا فى مجلة «ناشيونال إنترست» الأمريكية، بعد فترة قصيرة من اندلاع ثورات الربيع العربى، والتحركات المحمومة التى ظهر بها رجب طيب أردوغان، محاولا أن يؤكد للعالم كله أنه الزعيم الحقيقى للعالم الإسلامى، فى حالة متقدمة من النرجسية وجنون العظمة، كان «أبراهاموفيتش» نفسه هو أول من لاحظها، ربما لأنه ساهم مبكرا جدا فى صنعها.
قال السفير الأمريكى السابق فى مقاله المنشور بتاريخ 19 أكتوبر 2011: إن من يتابع كلام «أردوغان» ومواقفه، يلاحظ أنه يقدم نفسه فى صورة «المنقذ» بالنسبة للعالم الإسلامى، وأنه يشعر بشكل ما أنه مكلّف بقيادته، إلى حد أنه لم يتردد يوما ما فى الذهاب إلى الصومال مثلا لكى يقدم نفسه على أنه منقذ المسلمين أينما كانوا. لكن، على الرغم من تلك الجهود، فإن لغة وخطاب «أردوغان» تكشف أنه يعتبر أن كل شىء متعلق به، ويتمحور حوله. وهو لا يرى فى «المستضعفين» الذين يدعى نصرتهم، إلا فرصة لإظهار حجم نفوذ تركيا تحت قيادته، واستعراض عضلاته السياسية أمام المجتمع الدولى. ويتابع «أبراهاموفيتش»: «أردوغان» لديه قناعة كاملة أنه مكلف «بمهمة»، وهو يدرك جيدا أن هناك علاقة قوية تربطه بالولايات المتحدة الأمريكية وأهدافها ومصالحها فى العالم والشرق الأوسط، إلا أن طموحه الجامح الذى لا يعرف سقفا، وتصوره الدينى للعالم، كلها تصنع مزيجا متفجرا قابلا للاشتعال فى أية لحظة، بشكل يجعل منه حليفا يصعب الاعتماد كثيرا عليه.